الأحد، 27 نوفمبر 2011

 
 
قضبانُ الطّين


قصة قصيرة


- " سمراء.. أنتِ تعيشين تفاصيل كابوسٍ طويل سيفضي بكِ إلى حافة الجنون ..

استيقظي .. " عذال" لن يعود .

غادري ذكراه .. كي يغادركِ الأسى "


تتأمّل وجه شقيقتها بتفاصيله التي تضجّ أنوثة وجاذبية ..

تلحظ ُ أحلام الغد وهي تتراقص بين نظراتها المتوقّدة

رغم فارق السنوات القصيرة الذي يفصل بين عمريهما

إلا أن الحياة وهبتْ أختها من فرص النجاة أكثر مما وهبتها


- " اتركيني .. رغداء "

- " لن أترككِ حتى تعودي معي قبل مغيب الشمس "

- " قلتُ لكِ اتركيني وحدي .. عودي إلى القرية الآن "

وميض الفرح المتراقص داخل عينيها الجريئتين يخبو..

تبهتُ بسمتها البيضاء ..

تنهض ..تقترب منها .. تهمس في أذنها :

- " سمراء .. إن مكثتِ هنا حتى المساء .. ستموتين ! .

سيقتلكِ أبي ..

سمعته البارحة يتوعّد بأنه سيقتلكِ إن لم تعودي باكراً معي "

تدفعُ شقيقتها نحو الطريق المؤدية إلى القرية بكلتي يديها

" قلتُ لكِ اذهبي الآن .. عودي "

تتأملُ شبحها وهي تركض عائدة ً نحو بيوت الطين ..

تلك القضبان التي تطبق على أنفاسها كل مساء حينما تبتلع جسدها إلى الداخل

لتجد بانتظارها سيلٌ من الصفعات والركلات ..

ليس لسبب إلا أنها تعود وحدها ليلاً


ظلت عيناها جاحظتين .. ساكنتي النظرة ..

تتأمّلان قرص الشمس وهو ينحدر نحو البؤرة القاتمة التي تجهل ما خلفها

فكرةٌ هُلاميةٌ عالقةٌ بثنايا مخيّلتها .. تقافز .. تهزّ وعيها .. لعلّها تستفيق ..

تستشعرُ أن كينونتها ليست سوى ذرّة تراب تسبحُ في قفارٍ شاسعةِ لا تنتهِ

رأسها مستندٌ إلى جذع شجرة الأراك العتيقة ..

تلك الشجرة التي شهدت لقاءه الأول .. ووداعه الأخير

" عذّال" لم يكن ذلك البدوي المُمتشق سيف قسوته وجلافة طبعه

كان ساكناً هادئاً .. يتلثّمُ رداء بؤسه وغربته

ليخفي وراءه جريرته الوحيدة .. أنه لا ينتمي إلى هذه القبيلة التي أنجبت " سمراء " !


كان يهشّ على غنمه بعصاً سميكةٍ لا تدرك ماهيّة الاتجاه حينما قادته إليها

في لحظةٍ متعثرةٍ أشبه بالسراب

كان يقف أمامها كعلامة استفهام معوجّة القامة ..

حانية الظهر لا تعني أكثر من سؤال لا يتجشم عناء البحث عن جواب ليقترن به

جبهته العريضة تذعنُ لتعرجات داكنة .. تشق طريقها بشراسة نحو استدارة عينيه

شللٌ مفاجئ يكتسح ذهنها حينما تبدأ بتذكر ما حدث ..

في يومٍ خارج أقواس بؤسها .. منحها إنسانيته .. ومنحته قلباً لم يجتز أسواره أحدٌ قبله

اعتادت معه أن تمرّ اللحظات دون حديث .. فكأنّما أفسح الصمت مساحاته الشفافة

لتستنطق هي مكامن مشاعره .. وتفتش بداخله عن كلمةٍ مدفونة تحت ركام السنوات البالية

كلمةٌ يبستْ في فمه قبل أن يلفظها ..

كلمةٌ لم تكن هي لتعترف بها .. أو ليجيد هو كيفية نطقها

مشاعرٌ داهمها اليباس و استفاقت متأخرة على ضفاف الخريف ..

لم تغادر ذهنها تلك اللحظة .. حينما توشّح رداءه القاتم .. وأدار لها ظهره

لم تكن تدرك أنه لن يعود ..

أو أن سنواتِ طوال سوف تمضي من عمرها على قارعة الانتظار..

ليس لبوصلة حدسها أن تدرك إلى أي صوبٍ مضى ..

هي تثق بذلك الحدس حينما أخبرها أنه على قيد الحياة

لكنها تريد أن تمتلك خارطته بيدها ..

لا تريد أن تنحدر إلى العمق لتبدو عاجزة .. فارغة منه ..

جرداء من ذلك الإحساس بالأمان والدفء الذي تستشعره حينما يكون إلى جوارها.


يسحقها شعورٌ بالخواء ..

تحفر خطواتها معالم البؤس فوق سحنتها في كل مرةٍ تعود أدراجها ليلاً .

أي مصيرٍ أسود ينتظرها بدونه .


حفيف الشجر يدبُّ إلى أذنيها .. يهزُّ انتباهها

لا زال ظهرها مستنداً إلى شجرة الأراك ..

هنا وجدته .. وهنا فقدته .. وهنا تنتظر قدومه كل مغيب

نظراتها تتسلق أغصانها اليابسة .. ذات صباح .. سمعت نساء القرية

يحكين أن سمراء تعجّلت الخروج إلى الدنيا ..

لتولد تحت شجرة الأراك العتيقة المنتصبة بشموخ على مشارف القرية

كانت والدتها تجرًّ في وهن ٍ جسدها المثقل بجنين ٍ في أحشائها ..

وقربة ماءِ ممتلئة على رأسها

لم تمهلها حتى تصل إلى البيت .. فولدتها تحت تلك الشجرة .

لفحة هواء باردة تهز أغصانها ..
يخيّل إلى سمراء أنها ستشهد موتها مثلما شهدت مولدها

وربما ستُدفن بأرض " عذّال " وستلتقي أوردتهما معاً على تربةٍ واحدة .

غالبت دمعة حائرة فغلبتها .. كانت حادّة السقوط ..

صفعت - وهي تنحدر- وجنتها الباردة كشوكةٍ صغيرةٍ موجعة الوخز


- " عودي أيتها الملعونة .. عودي "

نداءات نابية تهدر .. تعصف ُ في أذنيها ..

كان الظلام مُريعاً .. خيوط القمربدأت تشق طريقها الوعر بين ثنايا العتمة ..

وقفت سمراء .. تجرّ أذيال اليأس

وهي تعود أدراجها نحو القرية الرابضة في الظلام ..

تسير في تثاقل .. توخز سمعها آيات اللعن والطعن

كأن خطواتها تسحق رغبة ً عارمة ً في الهرب نحو بقعة أرضٍ

تبحث فيها عن خيط رفيع لحكاية أو لعلّها تقتنص خبراً عن عذال

أتراهُ حيٌّ .. أم ميت

خطوة تتلوها خطوات .. البيوت تتعملق حول ناظريها كالأشباح المفزعة

لا تزال رغبتها بالهرب تتصاعد في صدرها

تلتفت إلى الوراء .. شبح الشجرة الغارقة في العتمة

يبدو كعصا عذال الهزيلة التي يلوّح بها فتستدل على مجيئه

تتأمّل المسافة الفاصلة بينها وبين الشجرة ..

كم هي بعيدة عن مساكنهم .. هل كانت تقطع تلك المسافة كل يوم دون أن تشعر بالتعب !

خيّل إليها أن ثمّة شبح يتحرّك قرب الشجرة .. أتراهُ عذال قد عاد

ارتخى بصرها .. اختبأتْ فكرةُ حمقاء بصدرها :

" في الغد سأحاول الهرب من جديد "

اصطدم بصرها ببيت الطين المنتصب في علو أمامها ..

استدارت باتجاه بابه الخشبي ذو المزلاج القاسي

احتواها الظلام إلى الداخل

صفعةٌ تشق جنح السكون .. تتوالى الصفعات ..

سمراء تستغيث .. ليس هنالك من مُجيب ..أصوات ركلٍ تتابع ..

صراخها يتحول إلى نشيج غائرِ وأنين ٍ متقطّع

تتضاءل الأنّات شيئاً فشيئاً .. يسود السكون أرجاء القرية ..

صوتٌ يهدر من الداخل

- " احمل جسدها القذر وادفنه تحت شجرة الأراك

الخميس، 14 أبريل 2011





تصعُبُ الحياةُ حِينَما يُحارِبُ الإنسان ُ ذاته .. 
 
حِينما يزحفُ الخوفُ نحو ركامِ أحلامِنا ..

حِينَما تُوأدُ الأمنياتُ خلْفَ سوادِ أحداقِنا .. 
 
حِينَما تمُوتُ الأحَاديثُ في مَهْدِ شِفاهِنا ..

ببساطة .. حينما لا نُصبحُ بعد اليوم .. " نحنُ " .




كُلِّي حرفٌ ..

وبعضي ألمٌ ..

ولاشئ منِّي يجيدُ الكلام




ظُلُماتٌ ثلاث

 
" لمْ ينطفئ في فمي الكلام ..

 
وإنّما فقدتُ بَصَري فلم أعُد أرَ إلآ ظلماتٍ ثلاث ..


وَصَمْتي عارٌ في زمَن السُّكات ..


وقد جيء على رِدَائي بدمٍ كذبٍ ..

 
فآنَ أوانُ المَمَات "



" إجهاد "
في الليل .. حينما يبحثُ الرأسُ المُثقلُ عن وسادة ..
يعاودُ التفكير رغم إجهاده ..
ويكبرُ من جديد ..
في كلّ دقيقةٍ ليليةٍ .. ألف عامٍ أو يزيد !!




يومي يذرِفُ على هامةِ أمْسِي أمطارَ الشّتاء ..
ومن رحم الأرْض الثكلى ينبُتُ غدٌ تكللٌه أزاهيرُ الرجاء ..
رُحماكِ سماءَ لا ينطقون ..
كوني سُباتاً ..
كوني بياتاً ..
ولكن لا ترتضي لنبضاتي السُّكون ..
أولدُ كل يوم ٍ وفي فمي ألفُ حكايةٍ ..
وفي أفواه الآخرين ..
روايةٌ واحدةٌ هي " أنا " التي لن تكون !!




خواء :
أصبحتُ أقتات أفكاري المُبهمة ..
لأنسج قصةً لم تُكتب بعد ..
أو لعلّها كُتبت في زمن اللا نُطق
فأبت إلا أن تنسلخ من جسدها الرقيق ..
لتبقى خرساء محنّطة على صفحة البياض ..
تنتظر زمن الحياة الأخرى أن يأتي ..
ليبثّ فيها الروح .. وتغادر التابوت .